الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قلت: كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما اثنان؟.قلت: أجراهما مجرى الجماعة، وهو جائز في لغة العرب {فائتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله: {فائتياه فقولا إنا رسولا ربك}.قلت: الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه، إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير:
أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة، والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين {أن أرسل معنا بني إسرائيل} أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك، وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا، وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن الله قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى الله تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون وقالوا: من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنونًا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعًا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول، ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون: ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة الله تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف {قال} له {ألم نريك فينا وليدًا} يعني صبيًا {ولبثت فينا من عمرك سنين} أي ثلاثين سنة {وفعلت فعلتك التي فعلت} يعني قتلت القبطي {وأنت من الكافرين} قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسًا، وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكافر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة، ولا بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته {قال} يعني موسى {فعلتها إذًا وأنا من الضالين} أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين {ففررت منكم} اي إلى مدين {لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا} يعني النبوة وقيل العلم والفهم {وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} أي اتخذتهم عبيدًا قيل: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني اسرائيل فيكون معنى الآية وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني اسرائيل وتركتني فلم تستعبدني، وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام، فحذف الألف كما قال عمر بن عبد الله بن ربيعة: أي أتتركني، والمعنى أتمن علي أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية، وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي، ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك تربيني وتكلفني، ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم.{قال فرعون وما رب العالمين} يقول أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، وهو سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية فلهذا عدل موسى عن جوابه، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها {قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} أنه خالقهما فاعرفوا أنه لايمكن تعريفه إلا بما ذكرته لكم، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب، وقال أهل المعاني أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله تعالى الذي خلقها وأوجدها فلما قال ذلك موسى تحير فرعون في جواب موسى {قال لمن حوله} أي من أشراف قومه قال ابن عباس: كانوا خمسمائة رجل عليه الأسورة {ألا تستمعون} وإنما قال فرعون: ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أني إنما أطلب منها الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بأفعاله وآثاره وقيل: إنهم كانوا يعتقدون إن آلهتهم ملوكهم ثم زادهم موسى في البيان {قال ربكم ورب آبائكم الأولين} يعني أن موسى ذكر ما هو أقرب فقال ربكم يعني أنه خالقكم وخالق آبائكم الأولين {قال} يعني فرعون {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} يعني المقصود من السؤال طلب الماهية، وهو يجيب بالآثار الخارجة وهذا لا يفيد البتة فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلًا عن أن يجيب عنه، ويتكلم بكلامه لا نقبله ولا نعرف صحته، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل فزاد في البيان {قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، ومعنى إن كنتم تعقلون قد عرفتم أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت {قال} فرعون حين لزمته الحجة، وانقطع عنه الجواب تكبرًا عن الحق {لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين} قيل كان سجن فرعون أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان يهوي فيه إلى الأرض وحده فردًا لا يسمع ولا يبصر فيه {قال} له موسى حين توعده بالسجن {أولو جئتك بشيء مبين} أي بآية بينة والمعنى أتفعل ذلك، ولو جئتك بحجة بينة وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بالبيان {قال} يعني فرعون {فأت به} أي إنا لن نسجنك حينئذٍ {إن كنت من الصادقين} فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين قيل إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء، قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون فقال: بالذي أرسلك ألا أخذتها فأخذها موسى، فعادت عصًا كما كانت فقال وهل غيرها قال نعم وأراه يده في أدخلها في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس وهو قوله: {ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} فعند ذلك {قال} فرعون {للملأ حوله إن هذا} يعني موسى {لساحر عليم} وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قومه ثم قال: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} قال هذا القول على سبيل التنفير لئلا يقبلوا قول موسى {فما تأمرون} يعني ما رأيكم فيه وما الذي أعمله فعند ذلك {قاله أرجه وأخاه} أي أخره وأخاه {وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم} قيل إن فرعون أراد قتل موسى فقالوا لا تفعل فإنك إن قتلته دخلت الناس شبهة في أمره ولكن أخره، واجمع له سحرة ليقاوموه ولا تثبت له عليك حجة.قوله تعالى {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} يعني يوم الزينة قال ابن عباس وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز {وقيل للناس هل أنتم مجتمعون} أي لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} لموسى قيل أراد بالسحرة موسى وهارون وقالوا: ذلك على طريقة الاستهزاء {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين} طلبوا من فرعون الجزاء، وهو بذل المال والجاه فبذل لهم ذلك كله.وقوله: {قال نعم وإنكم لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون} أي بعظمة فرعون {إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون} أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم قيل: إن عصى موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة {فألقي السحرة ساجدين} قيل إنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر، ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين ثم إنهم {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وإنما قالوا رب موسى وهارون، لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله {قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون} فيه وعيد مطلق وتهديد شديد ثم بين ذلك الوعيد فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلا ربنا منقلبون} أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنا نتقلب ونصير إلى ربنا في الآخرة مؤمنين مؤملين غفرانه وهو قولهم {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا} أي الكفر والسحر {أن} أي لأن {كنا أو المؤمنين} أي من أهل زماننا وقيل أول المؤمنين أي من الجماعة الذين حضروا ذلك الجمع. اهـ.
|